منذ أن بدأت أقضي نهاري بمطالعة الصحف ، ومسائي بالإستماع إلى نشرات الأخبار واجتماع فلان بفلان وإجراء محادثات لم يكشف ما دار فيها ولا عليها ، وقراءة بيانات المعارضة وتفنيدها من الموالاة ، واتهام فلان بالهدر ونفي هذا الفلان ، وإقالة هذا المسؤول ونظافة كفّ ذاك حتى حكمت رأسي دوخة وطنّية المنشأ استعصت على «الفاليوم» واستوجبت مشورة محلّل استراتيجي ليس أقلّ من هنري كيسنجر.
أي نشرة أخبار أصدّق وأي حزب أو زعيم أؤيد ؟ ثلاثون عاما لم أسمع إلا أننا في فترة حرجة وظروف دقيقة وأوضاع إقليمية صعبة ومشاكل معقّدة ، ومؤامرة كبيرة تحمل على كتفها «خرجاّ» كبيراً يتّسع لجميع أخطائنا وتقصيرنا .فالتراجع مرحلة عابرة ، والإنتصار قادم لا محالة ، إنها مسألة وقت ليس إلا .
سياسة تقول ولا تسمع ، وتجد الشأن العام مثل خشبة مسرح تشهد لرشاقتهم في التحول من المولاة إلى المعارضة أين منها راقصات «الباليه» . خطاهم ثابتة ، يحجلون من إذاعة إلى جريدة ، من بيان تأييد إلى بيان تنديد ، من محطة أرضية إلى فضائية ، أصواتهم لا تخف ، بياناتهم لا تجف ، ازدحام في الطرقات وعلى «الميكروفونات» والأكتاف، مواقفهم واضحة وحازمة،شفافية مطلقة نظافة لافتة ، ينتمون إلى كل عامل يبحث عن وظيفة ، إلى كل فلاح ينتظر موسماً ، إلى كل شاب يبحث عن منبر ، وإلى كل شاعر أعيته قافية .
صدرهم كبير يتسع لأكثر من قميص ، كل عهد يحتاج إلى ياقة ، وكل حكومة تحتاج إلى حاشية، أعياهم السهر على سن القوانين والخروج عليها . انتباج في عيون لا تعرف النوم إلاّ على القضايا الكبرى ، ومع قهوة الصباح « يبطحون « كل الملفات الصغيرة .
يترجلون من «شبحاتهم» و «نملاتهم» غير مكترثين بالتكييف والحراسة الشخصية ، لا تفوتهم فرصة للتقرّب من الناس والإحتكاك بهم حتى ولو «لقطوا» الرشح وتصلبت شرايينهم في واجهة أسعار . الليل لا ينال من اندفاعهم ، يتنقّلون من مدينة إلى قرية ، من شارع إلى ىشارع يرصدون ، يسجّلون ، يتأثرون و «يعطسون» .
في الوطنية لهم معلّقات ، في الفكر لهم دراسات، يتحاشون الأوسمة ، عملهم في الظل تواضعاً وفي العلن خجلاً ، هواتفهم الثابتة سيمفونية لا تهدأ ، تهنئة ، شكر ، وتنويه ، إعجاب وتقدير و لا يمكنك إدراك دقّة حساباتهم المحلية والإقليمية والمصرفية .
دول كبرى تتنصت عليهم ترصد شعبيتهم المتزايدة ، يقاومون الإحتواء والإملاء ، ورغم كل ذلك يشعرون بالأسى والغبن والإحباط ويتساءلون بكل براءة ومرارة : ما فعلناه لشعوبنا لا يقدر بثمن ومن دون «تاكس» ولا نعرف لماذا تتزاحم شعوب بأكملها على المطارات والمعابر الحدودية للمغادرة ؟!.
نعرف شعوبنا جيداً لم يغادروا للسياحة ، لكنهم يفضلّون علينا امرأة مثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي ذهبوا إلى أحضانها سباحة عبر البحر المتوسط ، ورئيس الوزراء الكندي جوستان ترودو الذي يمضي وقته بركوب «الدراجة» وبأخذ صور «السيلفي» في «المترو» مع المارّة !
لماذا لم يقولوا لنا أنّهم يحبون الدرّاجات لهذه الدرجة ؟ بإمكاننا توفير لكل مواطن درّاجة للحفاظ على رشاقته ، وسيارة للنزهات ، و»مترو» يربض على قلبه ، أمّا «السيلفي» فبلا شك سنأخذها على قبره حتى يريحنا ويرتاح.
كميل نصراوي